فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض}
تسبيحًا متجددًا على سبيل الاستمرار {الملك القدوس العزيز الحكيم} صفات للاسم الجليل، وقد تقدم معناها، وقرأ أبو وائل، ومسلمة بن محارب، ورؤبة، وأبو الدينار، والأعرابي برفعها على المدح، وحسن ذلك الفصل الذي فيه نوع طول بين الصفة والموصوف، وجاء كذلك عن يعقوب، وقرأ أبو الدينار، وزيد بن علي {القدوس} بفتح القاف.
{هُوَ الذي بَعَثَ في الأميين} يعني سبحانه العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرأون.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» وأريد بذلك أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى، فالأمي نسبة إلى الأم التي ولدته، وقيل: نسبة إلى أمة العرب، وقيل: إلى أم القرى، والأولى أشهر، واقتصر بعضهم في تفسيره على أنه الذي لا يكتب، والكتابة على ما قيل: بدئت بالطائف أخذوها من أهل الحيرة وهم من أهل الأنبار، وقرئ {الأمين} بحذف ياء النسب {رَسُولًا مّنْهُمْ} أي كائنًا من جملتهم، فمن تبعيضية، والبعضية: إما باعتبار الجنس فلا تدل على أنه عليه الصلاة والسلام أمي، أو باعتبار الخاصة المشتركة في الأكثر فتدل، واختار هذا جمع، فالمعنى رسولًا من جملتهم أميًا مثلهم {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته} مع كونه أميًا مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم {وَيُزَكّيهِمْ} عطف على {يَتْلُو} فهو صفة أيضًا لرسولًا أي يحملهم على ما يصيرون به أزكياء طاهرين من خبائث العقائد والأعمال.
{وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} صفة أيضًا لرسولًا مترتبة في الوجود على التلاوة.
وإنما وسط بينهم التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلًا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر، ولو روعي ترتيب الوجود لربما يتبادل إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة كما في سورة البقرة، وهو السر في التعبير عن القرآن تارة بالآيات؛ وأخرى بالكتاب والحكمة رمزًا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة.
ولا يقدح فيه شمول الحكمة لما في تضاعيف الأحاديث النبوية من الأحكام والشرائع قاله بعض الأجلة، وجوز كون {الكتاب والحكمة} كناية عن جميع النقليات والعقليات كالسماوات والأرض بجميع الموجودات.
والأنصار والمهاجرين بجميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وفيه من الدلالة على مزيد علمه صلى الله عليه وسلم ما فيه؛ ولو لم يكن له عليه الصلاة والسلام سوى ذلك معجزة لكفاه كما أشار إليه البوصيري بقوله:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ** في الجاهلية والتأديب في اليتم

{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ} لـ: {في ضلال مُّبِينٍ} من الشرك وخبث الجاهلية، وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم وإن كان نسبة الضلال إليهم باعتبار الأكثر إذ منهم مهتد كورقة وأضرابه، وفي الكلام إزاحة لما عسى أن يتوهم من تعلمه عليه الصلاة والسلام من الغير {وَأَنْ} هي المخففة واللام هي الفارقة.
{وَءاخَرِينَ} جمع آخر بمعنى الغير، وهو عطف على {الأميين} [الجمعة: 2] أي وفي آخرين {مِنْهُمْ} أي من الأميين، ومن للتبيين {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم} أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون، وهو الذين جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين؛ وجوز أن يكون عطفًا على المنصوب في {وَيُعَلّمُهُمُ} [الجمعة: 2] أي ويعلمهم ويعلم آخرين فإن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندًا إلى أوله فكأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي تولى كل ما وجد منه واستظهر الأول، والمذكور في الآية قوله صلى الله عليه وسلم، وجنس الذين بعث فيهم، وأما المبعوث إليهم فلم يتعرض له فيها نفيًا أو إثباتًا، وقد تعرض لإثباته في آياته أخر، وخصوص القوم لا ينافي عموم ذلك فلا إشكال في تخصيص الآخرين بكونهم من الأميين أي العرب في النسب، وقيل: المراد من الأميين في الأمية فيشمل العجم، وبهم فسره مجاهد كما رواه عنه ابن جرير.
وغيره وتعقب بأن العجم لم يكونوا أميين.
وقيل: المراد منهم في كونهم منسوبين إلى أمة مطلقًا لا في كونهم لا يقرأون ولا يكتبون، وهو كما ترى إلا أنه لا يشكل عليه وكذا على ما قبله ما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن أبي هريرة قال: «كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ {وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال: والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء» فإنه صلى الله عليه وسلم أشار بذلك إلى أنهم فارس، ومن المعلوم أنهم ليسوا من الأميين المراد بهم العرب في النسب.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالأميين مقابل أهل الكتاب لعدم اعتناء أكثرهم بالقراءة والكتابة لعدم كتاب لهم سماوي تدعوهم معرفته إلى ذلك فيشمل الفرس إذ لا كتاب لهم كالعرب، وعلى ذلك يخرج ما أشار إليه الحديث من تفسير الآخرين بالفرس وهو مع ذلك من باب التمثيل، والاقتصار على بعض الأنواع بناءًا على أن بعض الأمم لا كتاب لهم أيضًا، وربما يقال: إن من في {مِنْهُمْ} اسمية بمعنى بعض مبتدأ كما قيل في قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقول} [البقرة: 8] وضمير الجمع لآخرين وجملة {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} خبر فيشمل آخرين، طوائف الناس الذين يلحقون إلى يوم القيامة من العرب والروم والعجم وغيرهم؛ وبذلك فسره الضحاك، وابن حيان، ومجاهد في رواية، ويكون الحديث من باب الاقتصار والتمثيل كقول ابن عمر: هم أهل اليمن، وابن جبير هم الروم والعجم فتدبر.
وزعم بعضهم أن المراد بقوله تعالى: {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} أنهم لم يلحقوا بهم في الفضل لفضل الصحابة على التابعين ومن بعدهم، وفيه أن {لَّمًّا} منفيها مستمر إلى الحال ويتوقع وقوعه بعده فتفيد أن لحوق التابعين ومن بعدهم في الفضل للصحابة متوقع الوقوع مع أنه ليس كذلك، وقد صرحوا أنه لا يبلغ تابعي وإن جل قدرًا في الفضل مرتبة صحابي وإن لم يكن من كبار الصحابة، وقد سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية.
وعمر بن عبد العزيز أيهما أفضل؟ فقال: الغبار الذي دخل أنف فرس معاوية أفضل عند الله من مائة عمر بن عبد العزيز فقد صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] إلخ فقال معاوية: آمين، واستدل على عدم اللحوق بما صح من قوله عليه الصلاة والسلام فيهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» على القول بأن الخطاب لسائر الأمة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخر» فمبالغة في خيريتهم كقول القائل في ثوب حسن البطانة: لا يدري ظهارته خير أم بطانته.
{ذلك} إشارة إلى ما تقدم من كونه عليه الصلاة والسلام رسولًا في الأميين ومن بعدهم معلمًا مزكيًا وما فيه من معنى البعد للتعظيم أي ذلك الفضل العظيم {فَضَّلَ الله} وإحسانه جل شأنه: {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} من عباده تفضلًا، ولا يشاء سبحانه إيتاءه لا حد بعده صلى الله عليه وسلم.
{والله ذُو الفضل العظيم} الذي يستحقر دونه نعم الدنيا والآخرة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)}
افتتاح السورة بالإِخبار عن تسبيح أهل السماوات والأرض لله تعالى براعة استهلال لأن الغرض الأول من السورة التحريض على شهود الجمعة والنهي عن الأشغال التي تشغل عن شهودها وزجر فريق من المسلمين انصرفوا عن صلاة الجمعة حِرصًا على الابتياع من عِيرٍ وردت المدينة في وقت حضورهم لصلاة الجمعة.
وللتنبيه على أن أهل السماوات والأرض يجددون تسبيح الله ولا يفترون عنه أوثر المضارع في قوله: {يسبح}.
ومعاني هذه الآية تقدمت مفرقة في أوائل سورة الحديد وسورة الحشر.
سوى أن هذه السورة جاء فيها فعل التسبيح مُضارعًا وجيء به في سواها ماضيًا لمناسبةٍ فيها وهي: أن الغرض منها التنويه بصلاة الجمعة والتنديد على نفر قطعوا عن صلاتهم وخرجوا لتجارة أو لهو فمناسب أن يحكى تسبيح أهل السماوات والأرض بما فيه دلالة على استمرار تسبيحهم وتجدده تعريضًا بالذين لم يتموا صلاة الجمعة.
ومعاني صفات الله تعالى المذكورة هنا تقدمت في خواتم سورة الحشر.
ومناسبة الجمع بين هذه الصفات هنا أن العظيم لا يَنصرِف عن مجلس من كان عنده إلا عند انفضاض مجلسه أو إيذانه بانصرافهم.
و {القُدوس}: المنزَّه عن النقص وهو يُرغب في حضرته.
و {العزيز}: يَعتز الملتفون حوله.
فمفارقتهم حضرته تفريط في العزة.
وكذلك {الحكيم} إذا فارق أحد حضرته فاته في كل آن شيء من الحكمة كما فات الذين انفضوا إلى العِير مَا خطب به النبي صلى الله عليه وسلم إذْ تركوه قائمًا في الخطبة.
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}
استئناف بياني ناشئ عن إجراء الصفات المذكورة آنفًا على اسم الجلالة إذ يتساءل السامع عن وجه تخصيص تلك الصفات بالذكر من بين صفات الله تعالى فكأن الحال مقتضيًا أن يبين شيء عظيم من تعلق تلك الصفات بأحوال خلقه تعالى إذ بعث فيهم رسولًا يطهر نفوسهم ويزكيهم ويعلمهم.
فصفة {الملك} [الجمعة: 1] تعلقت بأن يدبر أمر عباده ويصلح شؤونهم، وصفة {القدوس} [الجمعة: 1] تعلقت بأن يزكي نفوسهم، وصفة {العزيز} [الجمعة: 1] اقتضت أن يلحق الأميين من عباده بمراتب أهل العلم ويخرجهم من ذلة الضلال فينالوا عزة العلم وشرفه، وصفة {الحكيم} [الجمعة: 1] اقتضت أن يعلمهم الحكمة والشريعة.
وابتداء الجملة بضمير اسم الجلالة لتكون جملة اسمية فتفيد تقوية هذا الحكم وتأكيده، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم مَبعوث من الله لا محالة.
و {في} من قوله: {في الأميين} للظرفية، أي ظرفية الجماعة ولأحد أفرادها.
ويفهم من الظرفية معنى الملازمَة، أي رسولًا لا يفارقهم فليس مارًا بهم كما يَمرّ المرسل بمقالةٍ أو بمالكةٍ يبلغها إلى القوم ويغادرهم.
والمعنى: أن الله أقام رسوله للناس بين العرب يدعوهم وينشر رسالته إلى جميع النّاس من بلاد العرب فإن دلائل عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم معلومة من مواضع أخرى من القرآن كما في سورة [الأعراف: 158] {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا} وفي سورة [سبأ: 28] {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا}.
والمراد بالأميين: العرب لأن وصف الأميّة غالب على الأمة العربية يومئذٍ.
ووصف الرسول بـ: {منهم}، أي لم يكن غريبًا عنهم كما بعث لوطًا إلى أهل سدوم ولا كما بعث يونس إلى أهل نينوَى، وبعث إلياس إلى أهل صيدا من الكنعانيين الذين يعبدون بَعل، فـ:(من) تبعيضية، أي رسولًا من العرب.
وهذه منة موجهة للعرب ليشكروا نعمة الله على لطفه بهم، فإن كون رسول القوم منهم نعمةٌ زائدة على نعمة الإِرشاد والهدي، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم إذ قال: {ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم} [البقرة: 129] فتذكيرهم بهذه النعمة استنزال لطائر نفوسهم وعنادهم.
وفيه تورك عليهم إذ أعرضوا عن سماع القرآن فإن كون الرسول منهم وكتابه بلغتهم هو أعون على تلقي الإِرشاد منه إذ ينطلق بلسانهم ويحملهم على ما يصلح أخلاقهم ليكونوا حملة هذا الدين إلى غيرهم.
و {الأميين}: صفة لموصوف محذوف دل عليه صيغة جمع العقلاء، أي في الناس الأميين.
وصيغة جمع الذكور في كلام الشارع تشمل النساء بطريقة التغليب الاصطلاحي، أي في الأميين والأمِّيات فإن أدلة الشريعة قائمة على أنها تعم الرجال والنساء إلا في أحكام معلومة.
والأميون: الذين لا يقرؤون الكتابة ولا يكتبون، وهو جمع أمي نسبة إلى الأمة، يعنون بها أمة العرب لأنهم لا يكتبون إلا نادرًا، فغلبت هذا التشبيه في الإطلاق عند العرب حتى صارت تطلق على من لا يكتب ولو من غيرهم، قال تعالى في ذكر بني إسرائيل {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} وقد تقدم في سورة [البقرة: 78].
وأوثر التعبير به هنا توركًا على اليهود لأنهم كانوا يقصدون به الغض من العرب ومن النبي جهلًا منهم فيقولون: هو رسول الأميين وليس رسولًا إلينا.
وقد قال ابن صياد للنبي لما قال له: «أتشهد أني رسول الله». أشهد أنكَ رسولُ الأميين.
وكان ابن صياد متدينًا باليهودية لأن أهله كانوا حلفاء لليهود.
وكان اليهود ينتقصون المسلمين بأنهم أميون قال تعالى: {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} [آل عمران: 75] فتحدى الله اليهود بأنه بعث رسولًا إلى الأميين وبأن الرسول أمي، وأعلمهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كما في آخر الآية وأن فضل الله ليس خاصًا باليهود ولا بغيرهم وقد قال تعالى من قبل لموسى {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض} [القصص: 5- 6].
ووصف الرسول بأنه منهم، أي من الأميين شامل لمماثلته لهم في الأمية وفي القومية.
وهذا من إيجاز القرآن البديع.
وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله، أي وحيه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب، أي يلقنهم إياه كما كانت الرسل تلقن الأمم الكتاب بالكتابة، ويعلمهم الحكمة التي علمتها الرسل السابقون أممهم في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أي هو مع كونه أمّيًا قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرّسل غير الأميين أممهم ولم ينقص عنهم شيئًا، فتمحضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسى.
وفي وصف الأميّ بالتلاوة وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس ضرب من محسن الطباق لأن المتعارف أن هذه مضادة للأمية.
وابتدئ بالتلاوة لأن أول تبليغ الدعوة بإبلاغ الوحي، وثني بالتزكية لأن ابتداء الدعوة بالتطهير من الرجس المعنوي وهو الشرك، وما يعْلق به من مساوي الأعمال والطباع.
وعقب بذكر تعليمهم الكتاب لأن الكتاب بعد إبلاغه إليهم تُبيّن لهم مقاصده ومعانيه كما قال تعالى: {فإذا قرأناه فاتبع قرأنه ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 18، 19]، وقال: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]، وتعليم الحكمة هو غاية ذلك كله لأن من تدبر القرآن وعمل به وفهم خفاياه نال الحكمة قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231] ونظيرها قوله: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} في سورة [آل عمران: 164].
وجملة {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} في موضع الحال من الأميين، أي ليست نعمة إرسال هذا الرسول إليهم قاصرة على رفع النقائص عنهم وعلى تحليتهم بكمال علم آيات الله وزكاة أنفسهم وتعليمهم الكتاب والحكمة بل هي أجل من ذلك إذ كانت منقذة لهم من ضلال مبين كانوا فيه وهو ضلال الإِشراك بالله.
وإنما كان ضلالًا مبينًا لأنه أفحش ضلال وقد قامت على شناعته الدلائل القاطعة، أي فأخرجهم من الضلال المبين إلى أفضل الهدى، فهؤلاء هم المسلمون الذين نفروا إسلامهم في وقت نزول هذه السورة.
و {إنْ} مخففة من الثقيلة وهي مهملة عن العمل في اسمها وخبرها.
وقد سد مسدها فعل (كان) كما هو غالب استعمال {إنْ} المخففة.
واللام في قوله: {لفي ضلال مبين} تسمى اللام الفارقة، أي التي تفيد الفرق بين (إنْ) النافية و{إنْ} المخففة من الثقيلة وما هي إلا اللام التي أصلها أن تقترن بخبر (إن) إذ الأصل: وإنهم لفي ضلال مبين، لكن ذكر اللام مع المخففة واجب غالبًا لئلا تلتبس بالنافية، إلا إذا أمن اللبس.
{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)}
لا يجوز أن يكون {وآخرين} عطفًا على {الأميين} [الجمعة: 2] لأن آخرين يقتضي المغايرة لما يقابله فيقتضي أنه صادق على غير الأميين، أي غير العرب والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بين غير العرب فتعين أن لا يعطف {وآخرين} على {الأميين} لئلا يتعلق بفعل {بعث} مجرور الفي ولا على الضمير في قوله: {منهم} كذلك.
فهو إما معطوف على الضمير في {عليهم} من قوله: {يتلوا عليهم} [الجمعة: 2] والتقدير: ويتلو على آخرين وإذا كان يتلو عليهم فقد علم أنه مرسل إليهم لأن تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا تلاوة تبليغ لما أُوحي به إليه.
وإما أن يجعل {وآخرين} مفعولًا معه.
والواو للمعية ويتنازعه الأفعال الثلاثة وهي {يتلو}، {ويزكي}، {ويعلم}.
والتقدير: يتلو على الأميين آياتنا ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة مع آخرين.
وجملة {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [الجمعة: 2] معترضة بين المعطوف والمعطوف عليها أو بين الضمائر والمفعول معه و{آخرين}: جمع آخر وهو المغاير في وصف مما دل عليه السياق.
وإذ قد جعل {آخرين} هنا مقابلًا للأميين كان مرادًا به آخرون غير الأميين، أي من غير العرب المعنيين بالأميين.
فلو حملنا المغايرة على المغايرة بالزمان أو المكان، أي مغايرين للذين بعث فيهم الرسول، وجعلنا قوله: {منهم} بمعنى أنهم من الأميين، وقلنا: أريد وآخرين من العرب غير الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، أي عَربًا آخرين غير أهل مكة، وهم بقية قبائل العرب ناكده ما روى البخاري ومسلم والترمذي يزيد آخِرهم على الأوَّلَيْن عن أبي هريرة قال: كنّا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قال له رجل: مَن هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأَل ثلاثًا، وفينا سلمان الفارسي ووضع رسول الله يده على سلمان وقال: لو كان الإِيمانُ عند الثريا لناله رجال من هؤلاء؟ وهذا وارد مورد التفسير لقوله تعالى: {وآخرين}.
والذي يلوح أنه تفسير بالجزئي على وجه المثال ليفيد أن {آخرين} صادق على أمم كثيرة منها أمةُ فارس، وأما شموله لقبائل العرب فهو بالأوْلى لأنهم مما شملهم لفظ الأميين.
ثم بِنَا أن ننظر إلى تأويل قوله تعالى: {منهم}.
فلنا أن نجعل (مِن) تبعيضية كما هو المتبادر من معانيها فنجعلَ الضمير المجرور بـ:(مِن) عائدًا إلى ما عاد إليه ضمير {كانوا} من قوله: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [الجمعة: 2]، فالمعنى: وآخرين من الضَّالين يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم الكتاب والحكمة ولنا أن نجعل (مِن) اتصالية كالتي في قوله تعالى: {لست منهم في شيء} [الأنعام: 159].
والمعنى: وآخرين يتصلون بهم ويصيرون في جملتهم، ويكون قوله: {منهم} موضع الحال، وهذا الوجه يناسب قوله تعالى: {لما يلحقوا بهم} لأن اللحوق هو معنى الاتصال.
وموضع جملة {لما يلحقوا بهم} موضع الحال، وينشأ عن هذا المعنى إيماء إلى أن الأمم التي تدخل في الإِسلام بعد المسلمين الأولِينَ يصيرون مثلهم، وينشأ منه أيضًا رمز إلى أنهم يتعربون لفهم الدين والنطق بالقرآن فكم من معان جليلة حوتها هذه الآية سكت عنها أهل التفسير.
وهذه بشارة غيبية بأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ستبلغ أُممًا ليسوا من العرب وهم فارس، والأرمن، والأكراد، والبربر، والسودان، والروم، والترك، والتتار، والمغول، والصين، والهنود، وغيرهم وهذا من معجزات القرآن من صنف الإِخبار بالمغيبات.
وفي الآية دلالة على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الأمم.
والنفي بـ:(لمَّا) يقتضي أن المنفي بها مستمر الانتفاء إلى زمن التكلم فيشعر بأنه مترقَّب الثبوت كقوله تعالى: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]، أي وسيدخل كما في (الكشاف)، والمعنى: أن آخرين هم في وقت نزول هذه الآية لم يدخلوا في الإِسلام ولم يلتحقوا بمن أسلم من العرب وسيدخلون في أزمان أخرى.
واعلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان الإِيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء» إيماء إلى مثال مما يشمله قوله تعالى: {وآخرين منهم} لأنه لم يصرح في جواب سؤال السائل بلفظ يقتضي انحصار المراد بـ: {آخرين} في قوم سلمان.
وعن عكرمة: هم التابعون.
وعن مجاهد: هم الناس كلهم الذين بُعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم وقال ابن عمر: هم أهل اليمن.
وقوله: {وهو العزيز الحكيم} تذييل للتعجيب من هذا التقدير الإلهي لانتشار هذا الدين في جميع الأمم.
فإن {العزيز} لا يغلب قدرته شيء.
و {الحكيم} تأتي أفعاله عن قدر محكم.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}
الإِشارة إلى جميع المذكورِ من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم بالآيات والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة والإِنقاذ من الضلال ومن إفاضة هذه الكمالات على الأميين الذين لم تكن لهم سابقة علم ولا كتاب، ومن لحاق أمم آخرين في هذا الخبر فزال اختصاص اليهود بالكتاب والشريعة، وهذا أجدع لأنفهم إذ حالوا أن يجيء رسول أمي بشريعة إلى أمة أمية فضلًا عن أن نلتحق بأمية أمم عظيمة كانوا أمكن في المعارف والسلطان.
وقال: {قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} [آل عمران: 13] يختص به.
وهذا تمهيد ومقدمة لقوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة} [الجمعة: 5] الآيات. اهـ.